فصل: كتاب الدعوي والبينات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.كتاب الدعوي والبينات:

12211- الأصل في الدعاوي قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أعطي الناس بدعاويهم، لادَّعى قوم دماء قوم وأموالَهم، لكن البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر». وروي «واليمين على المدعى عليه». وهذه قاعدة متفق عليها بين الأُمة، فإن وقع نزاع، فهو يؤول إلى نفس المدعي والمدعى عليه، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله.
واختلف العلماء في حد المدعي والمدعى عليه.
فعند أبي حنيفة المدعي من يُثبت الشيءَ لنفسه، والمدعى عليه من ينفيه عن غيره. وذكر أصحابنا جوابين في ذلك:
أحدهما: أن المدعي من يدعي أمراً باطناً خفيّاً والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً جلياً، والثاني أن المدعي من إذا سكت، يترك والسكوت، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك.
وأثر هذا التردد مأخوذ من قولين، والفرع والأصل متداخلان، كل واحد منهما ملتف بالثاني، فما ذكرناه إذاً أصل مأخوذ من ثمرته وفائدتِه، والقولان فيه إذا أسلم الزوجان قبل الدخول، فإن أسلما معاً، فهما على النكاح، وإن ترتبا في الإسلام، بطل النكاح، فلو اختلفا؛ فقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل الآخر؛ وقال الزوج، بل أسلمنا معاً، ففي المسألة قولان:
أحدهما: القول قول الرجل؛ فإن المرأة لو سكتت تركت، واستمر النكاح، فهي مدعية، والزوج لو سكت، لم يترك إذا ادعت المرأة.
فعلى هذا القول " المدعي: من إذا سكت، يترك، والمدعى عليه من إذا سكت، لم يترك".
والقول الثاني- القول قول المرأة، لأنها تدعي أمراً ظاهراً، وهو ترتب الإسلام؛ فإن إسلامهما معاً يندر، ولا يتفق وقوعه، فعلى هذا؛ المدعي من يدعي أمراً باطناً، والمدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً.
ثم أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، فردّ دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السُّفَّل معاملةَ رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، قال: دعواه مردودة، وهذا كما إذا ادعى الرجل الخسيس أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذا مردود. والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذه الوساوس، ومثل هذا قصد الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: «لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم... الحديث». ووجه التعلق به أن الذي حاذره الرسول صلى الله عليه وسلم ثبوت الدعوى من غير صحة، وأما رد الدعاوي لرعونات الأنفس، فلا سبيل إليه، ثم ما ذكره الإصطخري ردُّ دعوى بظن، وإنما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى عليه، وذلك يتعلق بأمارات تغلب على الظنون.
فإن قيل: المودع إذا ادعى رد الوديعة، فليس يدعي أمراً جلياً، فلِمَ جعلتم القول قوله، وأحللتموه محل المدعى عليه مذهباً واحداً. قلنا: إذا ضبطنا المدعى علية بمن لو سكت، لم يترك، لم ينخرم الضبط بمسألة المودَع. وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فسبيل تخريج المودع على ذلك أن الإيداع ائتمان، وحكم الأمانة ثابت شرعاً للمودَع ولا معترض على الشرع، فإذا أنكر المودع الردَّ، فكأنه يُضمِّنه، والأصل أن الأمانة الثابتة لا تزول، وهذا ظاهر الرد، وهو في دعوى التلف أظهر؛ فإن دعوى التلف مسموعة من الغاصب في الرأي الأظهر، وإذا ثبت التلف وحكم الوديعة الائتمان، فلا ضمان.
12212- ولنا نظر وبحث في المدعي والمدعى عليه نذكره بعد نجاز قاعدةٍ نمهدها.
فنقول: التداعي يفرض على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون جارياً بين صاحب يد وبين من لا يد له، وصاحب اليد يسمى في اصطلاح الفقهاء الداخل، ومن لا يد له يسمى الخارج بالإضافة إلى الداخل. والوجه الثاني- فرض التداعي بين اثنين في عينٍ تحت أيديهما على الاشتراك. والثالث: فرض دعويين على التناقض من خارجين على صاحب يد، وذلك إذا ادعى رجلان ملكَ دار، كل واحد منهما يدعيها لنفسه.
وإذا نحن مهدنا قواعد الكتاب في هذه الأقسام، كنا مقيمين رسمَنا في تمهيد قاعدة كل كتاب في أوله.
القسم الأول
12213- فنبدأ بالتداعي من الداخل والخارج، فإذا ادعى رجل داراً هي في يد رجل، فأنكر صاحب اليد دعوى المدعي فالخارج في مقام المدعين، وصاحب اليد سماه الفقهاء مدعىً عليه، فالخصومة لا تخلو: إما أن تكون عريةً عن البينة، وإما أن تفرض فيها بيّنة، فإن لم تكن بينة، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. وإنما صدقه الشرع لقوة جانبه، وظهورِ صدقه؛ إذ اليدُ عاضدة فلما رجَّحتْ جَنْبَتَه، قدمه الشرع، ثم لم يكتف باعتضاده باليد، بل ألزمه اليمينَ إن أراد دفعَ الدعوى، وصاحب اليد حيث لا بينة بمثابة المدعى عليه في الدين إذا كان ينكره، فالقول قوله لاستمساكه بأصل براءة الذمة، واليد عند المحصلين أظهر وأقوى، وأولى بالتقوية من الاستمساك ببراءة الذمة؛ فإن اليدَ علامةٌ على الاختصاص، إن لم تكن دالة على الملك بمجردها، وليس للمدعى عليه في الدين دلالة على براءة الذمة، وإنما تعلقه باستصحاب حال- وهو أوهى المتعلقات، إذا سُبرت الأمارات، وخُبرت العلامات.
ولسنا نخوض في صيغة يمين صاحب اليد؛ فإنا سنعقد في كيفية الأيمان فصلاً جامعاً، إن شاء الله.
هذا إذا لم تكن بينة.
12214- فإن اشتملت الخصومة على البينة، لم تخل إما أن يختص المدعي بالبينة، وإما أن يقيم صاحب اليد بينة أيضاً مع بينة المدعي، وإما أن يجد صاحب اليد بينة دون المدعي الخارج.
فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يعارضه المدعى عليه، فالبينة مقضيّ بها، لا تعارضها يمين صاحب اليد؛ وذلك لأن اليمين وإن كانت حجة؛ فإنها تأتي من قِبل المدعى عليه، وهي قوله، وإن كان مؤكداً بذكر اسم الله تعالى، وبينة المدعي ثابتة من قِبل غيره، ولا حاجة إلى التكلف في تقرير هذا.
ولو وجد المدعى عليه بينة، وأراد إقامتها، نُظر: فإن حاول إقامتها قبل أن يقيم المدعي بينة، فالمذهب الظاهر أنها لا تُسمع منه؛ فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونِها، والتحليف أقرب من البينة المُحْوِجة إلى رد النظر إلى الجرح والتعديل، والقواعدِ المرعية في الشهادات، فلا حاجة إذاً إلى إقامة البينة.
وخرّج ابن سريج قولاً آخر أن بيّنته مسموعة، فإنه لو لم يُقمها، يحلف، فينبغي أن يسوغ له إقامة البينة، ليستغني عن اليمين، وهذا كالمودَع إذا ادعى التلف أو الرد، فالقول قوله مع يمينه، فلو أراد أن يقيم البينة، جاز له ذلك، ليتسبب إلى إسقاط اليمين عن نفسه، وأيضاً فإن الحالف معرَّضٌ للتهمة. وقد تتطرق إليه المطاعن؛ والبينة العادلة تقطع التهم.
فإن قيل: لم قطعتم بقبول بينة المودَع، وظاهر المذهب أن بينة صاحب اليد لا تُسمع قبل قيام بينة المدعي، فما الفرق؟ قلنا: الذي يقتضيه مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، فأما دعوى الملك، فلا حاجة به إليه، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده، وأما المودَع وإن كان مؤتمناً، فهو في منصب المدعين إذا ادعى ابتداءَ ردِّ أو تجددَ تلفٍ، فإن الملك في الوديعة ثابت للمودِع، غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مدعٍ فيه، والبينة تليق بحال المدعين، وهذا ظاهر لمن تأمل في الفرق بين القاعدتين.
ولو أقام المدعي البينة العادلة، ولم يبق إلا طلب القضاء بموجبها، فللمدعى عليه الآن أن يقيم البينة على إثبات ملك نفسه فيما في يده.
ولو أقام المدعي البينة، ولم تعدَّل بعدُ، فهل للمدعى عليه أن يقيم البينة قبل تعديل بينة المدعي، فعلى وجهين مرتبين على الخلاف المقدم فيه إذا أراد إقامة البتنة قبل أن يقيم المدعي البينة، ولا يخفى وجه الترتيب والفرق.
12215- ولو لم تتوجه دعوى على إنسان، فاراد أن يقيم بينة على ما في يده ليسجل القاضي له بالملك، فالمذهب الذي عليه التعويل أن القاضي لا يُصغي إلى بينته على هذا الوجه؛ فإن البيّنة تسمع في خصومة، ولا خصومة في هذه الصورة.
وأبعد بعض أصحابنا، فسوّغ سماع بينته للتسجيل له بالملك؛ فإن اليد المجردة لا تدل على الملك.
12216- ونحن نذكر من هذا المنتهى ما وعدناه في تحقيق المدعي والمدعى عليه، فنقول: قد ذكر أصحابنا أن المدعى عليه من يدعي أمراً ظاهراً، وهذا الكلام فيه مجازفة وتساهل، فإن المدعي في حكم اللسان، بل في قضية المعقول من يطلب أمراً ويدعيه، والمدعى عليه من ترتبط الدعوى به، وهو ينكرها ويأباها، فيخرج منه أن المدعى عليه لا يتصور أن يقيم البينة من وجه كونه مدعىً عليه؛ فإنه منكِر نافٍ، ولا تقوّم البينة على النفي. وهذا يتلقاه الفطن من فحوى الكلام النبوي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» معناه من نفى الدعوى ورُوي بدل «من أنكر» «واليمين على المدعى عليه»، فالمدعى عليه من أنكر.
ولكن إذا قامت بينة المدعي، فلصاحب اليد أن ينتصب مدعياً، فيكون مع الخارج متداعيين، ويقيم البينة من وجه ادّعائه للملك، ثم سيأتي الكلام في مقتضى البينتين.
ومن ادُعي عليه دين، فليس له إلا مقام المنكرين؛ إذ لا يتمكن من إثبات، فلما تجرد فيه مقام المدعى عليه، لم تقم البينة.
وأبو حنيفة لم يسمع بينة المدعى عليه بناء على مقامه، ولم يعلم أن الدعوى يتصور صدورها منه؛ فإن اليد لا تنافي نسبة الملك إلى نفسه. فآل حاصل الكلام: أن الشافعي أثبت لصاحب اليد مقام المدعين ليقيم البينة. فهذا القدر هو الذي يليق بهذا الموقف.
وإذا أقام المدعي البينة وعُدلت، فالمدعى عليه إن وجد بينة أقامها، والمذهب الظاهر أنه يكفيه إقامة البينة على الملك المطلق كما أقامها المدعي.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن المدعي إذا أقام بيّنة على الملك المطلق، لم تسمع من المدعى عليه البينة على الملك المطلق، بل عليه أن يذكر سبب ملكه، ويجب أن تشتمل بينته عليه، وإنما قال هؤلاء ما قالوه لسؤالٍ ارتاعوا منه، لما قيل: بينة صاحب اليد تعتمد ظاهر يده، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل اليد عليه، فحسبوا الكلام واقعاً، وقالوا: يجب أن يقيم صاحب اليد بينةً، ويسند ملكه إلى سببٍ غير اليد.
وهذا ليس بشيء، والمذهب القطع بأن ذلك ليس بشرط، ولو لم يحكِ القاضي هذا الوجه لما حكيته.
12217- ثم إذا تعارضت البينتان من الخارج والداخل، فتحقيق القول فيهما يقتضي استعجالَ كلام من القسم الثالث، فإذا ادعى رجلان داراً في يد ثالث، ادعاها كل واحد منهما لنفسه، وأقام على وفق دعواه شاهدين، ففي المسألة قولان في الأصل:
أحدهما: أن البينتين تتهاتران وتسقطان، والقول الثاني- إنهما تستعملان.
ثم في كيفية الاستعمال-على قول الاستعمال- ثلاثة أقوال:
أحدها: القرعة.
والثاني: القسمة.
والثالث: الوقف.
وسيأتي تحقيق ذلك في القسم الثالث، إن شاء الله تعالى.
فنقول في الخارج والداخل: إن حكمنا بتهاتر البينتين في حق المدعيين على ثالث، فهاهنا وجهان:
أحدهما: سقوط البينتين على قياس التهاتر، فكأن لا بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. والوجه الثاني- أنا لا نحكم بالتهاتر هاهنا، وإن حكمنا به ثَمَّ، فإن بينة صاحب اليد مترجحة بيده، وإنما يتحقق التساقط عند التساوي، فهذا ترجيح بينة على بينة، وهو كتقديمنا رواية كبير معظّم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على رواية عدد من آحاد الصحابة.
وإذا ادعى رجلان على ثالث، فلا ترجح لأحدهما على الثاني، هذا إذا فرّعنا على قول التهاتر.
وإن فرّعنا في القسم الثالث على قول الاستعمال، فثم ثلاثة أقوال، لا يجري منها قولهٌ في الخارج والداخل، لا الوقف، ولا القرعة، ولا القسمة، وإنما يجري هاهنا هذا الترجيح باليد فحسب.
غير أنا إذا فرعنا على قول القرعة، فمن خرجت له القرعة، فهل يحلف مع القرعة؟ فيه وجهان، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، فاختصاص الداخل باليد هل يكون كخروج القرعة؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: نُجري الوجهين في التحليف، كما أجريناهما في قول القرعة. ومنهم من قطع أن لا تحليف هاهنا، فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميّزت ظالماً من مظلوم؛ فيجب التثبت لأمرٍ الآن. وهو أنا نحلّف الداخل مع البينة في التفاريع على وجهين: قد نحلّفه على قول التهاتر لإسقاط البينتين، واعتقاد أن الخصومة خليّة عن البيّنة، وقد نحلّفه للترجيح. كما ذكرنا في تحليف من خرجت عليه القرعة.
ثم سرّ هذا الفصل أنه إذا كان يحلف لاعتقاد خلو الواقعة عن البينة، حلف على النفي، وإذا كان يحلف لترجيح بينته حلف على إثبات الملك، كما يحلف من خرجت له القرعة.
ونقول بعد ذلك: بينة المدعى عليه في مسلك بعض الأئمة مُثبتةٌ له ملكاً، وعلى هذا الوجه انتهى التفريع إلى سماع بينته أولاً، وهي عند بعض الأئمة قادحة في بينة المدعي بالمعارضة والمناقضة، وليست مفيدةً ملكاً. وقد انتهى هذا الطرف من الكلام، وحان أن نأخذ في طرف آخر من هذا القسم، فنقول:
12218- إذا أقام المدعي بينة عادلة، ولم يتمكن المدعى عليه من إقامة بينته، فأزال القاضي يده، وسلّم العين المدعاة إلى المدعي، فلو جاء المدعى عليه ببينته، وقال: أحضرت بينتي؛ فهل يسمعها؟ وكيف الطريق فيها؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي، وقال: أظهرهما- أن البينة لا تُسمع، لأنا نفضنا يده، وأجرينا القضاء به، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق، إلا أن يقيم البينة على تملك من جهة المدعي، الذي هو صاحب اليد الآن. هذا وجه. وعليه بحث سنذكره.
والوجه الثاني- نسمع بينته؛ لأنها تستند إلى يده ونقضي له، كما كان يقضى له لو أقام البينة ويده بعدُ قائمة دائمة؛ فإن يد المدعي ترتبت على يده في ظاهر الأمر.
وهذان الوجهان مبهمان، ونحن نوضحهما بالبحث والتفريع. فأما الوجه الأول- الذي رآه القاضي أظهرَ الوجهين- ففيه شيء، وهو أنه قال: ينبغي أن يقيم بينةً على تلقي الملك من المدعي، وهذا فيه نظر؛ فإنه لو أقام بينة على تلقي الملك من سبب آخر، وجب قبول بينته. وإنما لا نقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق، فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي، وحاصل هذا الوجه أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده، على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده، فجاء ببيّنة مطلقة، فقد لا تُسمع، والبحث بعدُ قائم.
فأما إذا فرّعنا على الوجه الثاني- فشرطُ سماع بينة المدعى عليه-إن أراد الفوز بالاسترداد- أن يُسند ببينته الملكَ إلى حال قيام يده، ثم بديمومته له في حالة الدعوى. فلو أقام البينة على الملك المطلق حالة الدعوى، لم تفده هذه البينة تقديماً، وسلطنة في استرداد ما أخرج من يده، فلو لم تتعرض بينته لإسنادٍ، وإنما تعرضت للملك بحالة الدعوى، فهذا رجل خارجي ابتدأ الدعوى وأقام بينة.
12219- وننعطف من هذا المقام إلى إتمام البحث الذي وعدناه، فنقول: إن أقام بينة مستندة إلى حالة اليد، فهذه البينة هي التي ردّها الأولون؛ فإنا لو قبلناها، لنقضنا حكمنا، حتى لو ادعى ملكاً مطلقاً غيرَ مستند، فخارجيٌّ ادعى، والسبيل في فصل الخصومة بيّن، وانتظم من مجموع ذلك أن البينة المطلقة التي ليست مستندة مسموعة، على الوجهين، ولو كانت مستندة، فهي مردودة في الوجه الأول، مقبولة في الثاني مقدمة. هذا تمام الكشف في ذلك.
ولو أقام المدعي بينة على الملك المطلق، وأقام صاحب اليد بينة على أن الدار ملكُه اشتراها من المدعي، فقد قال الصيدلاني: صاحب اليد أولى في هذه الصورة.
وقال القاضي: إذا أقام صاحب اليد البينة على هذا الوجه، قلنا له: أقررت للمدعي بالملك، فسلّم إليه، ثم ادّع البيع ابتداء.
وهذا الخلاف يرجع إلى أصل شبّب به القاضي مراراً، وصزح مراراً في الديون، وأوضح مراده في دعوى العين هاهنا. ونحن نذكر هذا الغرض موضَّحاً في الدين، ثم نقرره في دعوى العين، إن شاء الله.
فأما الكلام في الدين؛ فإذا ادعى رجل ألف درهم على رجل، فقال المدعى عليه: قد أبرأني عن هذا الألف، فدعوى الإبراء منه إقرارٌ بأصل الحق، فلو أراد أن يُحلّف المدعي على نفي البراءة، فلا شك أن له ذلك؛ فإن دعوى الإبراء دعوى منتظمة مسموعة، وترتيب الخصومة إسعاف المدعي بتحليف المدعى عليه، ولكن لو قال المدعى عليه؛ قد اقررتَ بحقي، فأدّه وسلّمه إليّ، ثم ادعّ ما شئت. فقال المدعى عليه: لا تستحق قبض شيء ما لم تحلف على نفي البراءة، فإن استحقاقك موقوف على نفي البراءة.
فالذي ذهب إليه الأصحاب أن المدعي لا يملك المطالبة بتوفية الحق ما لم يخرج عن عهدة دعوى الإبراء؛ بأن يحلف على نفيه. وقال القاضي: له أن يلزمه المال قائلاً: قد انتهت الخصومة الأولى بإقرارك، ولزمك توفية ما ثبت عليك، فوفّني حقي، ثم افتتح خصومة تريدها.
ولا خلاف أن المخاصِم لو كان وكيلاً، وكان الموكِّل غائباً، فادعي خصم الوكيل أن موكّله قبض الحق منه، ولا سبيل إلى تحليف الوكيل، فالخصومة لا تتوقف إلى حضور الموكل من مكانه الشاسع. هذا وجه التردد في الدّين.
فأما الكلام في دعوى العين، فإذا أراد المدعى عليه أن يقيم بينة على أنه اشتراها من المدعي، فللمدعي أن يقول عند القاضي: أزل يدك وردّ الدار إليّ، ثم ادّع الشراء وأثبته، وعلى هذا الأصل خرج جوابه.
وعند الصيدلاني وغيرِه: إذا حضرت البينةُ لم نُزل يدَه، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق مع تقدم شراءٍ منه، فهذا مقام يجب التنبه له.
ولو قال المدعى عليه: اشتريت هذه الدارَ منك، وفرّعنا على ما ذكره الصيدلاني من أن بينة الشراء لو كانت حاضرةً، لسمعناها، ولا نبتدر يدَه بالإزالة. فعلى هذا لو قال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم بينةً على الشراء، فلا نمهله بلا خلاف، إذا أقام المدعي بينة على الملك المطلق.
12220- ومن الأصول الجلية التي لا تخفى على الشادين لو ذكرت لهم، وهى تثير في مجاري الكلام إشكالاً، أن من أقر لإنسان بملك مطلق، أو بملك مترتب على سبب، مثل أن يقول: كانت الدار ملكي، فبعتها من فلان بيعاً صحيحاً، فإذا صح الإقرار، فحكمه مستمر على طوال الأمد، ومهما ادعى المقر الملكَ في ذلك المقرّ به، قام إقراره حجة عليه، وكان مؤاخذاً به. وإن كان لا يمتنع أن يتجدد له الملك في ذلك المقَر به. ولولا هذا الأصل المتفق عليه، لما كان في الأقارير حجةٌ، ومتعلَّقٌ، على ما رآه الأولون، فإذاً مهما ادعى المقِر ملكاً، فدعواه مردودة، إلا أن يسنده إلى التلقي من المقَر له، أو يسنده إلى التلقي ممن تلقى منه.
ولو ادعى رجل ملكاً في يد إنسان، وأقام بينة على ملك نفسه، ووقع القضاء بموجَب بينتِه له، فلو جاء المدعى عليه-بعد زوال يده، والقضاء بالملك للمدعي- وادعى أن هذه الدار ملكي، فقد تلقيت من كلام الأصحاب في هذا تردداً في أن دعواه المطلقة هل تسمع؟ وليقع الفرض فيه إذا لم تكن له بينة.
فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الدعوى على الإطلاق مسموعة هاهنا بتأويل التلقي، وإن لم يذكره. ومنهم من قال: لابد وأن يذكر في دعواه تلقي الملك ممن قامت له بينة، كما ذْكرناه في الإقرار، ومن سلك المسلك الأول فرّق بأن المقر مؤاخذ بحكم قول نفسه، والبينة لم تشهد إلا على الملك في الحال، فلم ينبسط أثرها على الاستقبال. وهذا الذي ذكرنا، في المدعى عليه.
فأما إذا جاء أجنبي وادعى ملك الدار مطلقاً، فدعواه مسموعة، وإن قامت البينة بالملك للمدعي من قَبْلُ، وتلك البينة موجبها انتفاء الملك عن الناس كافة دون المدعي! فليتأمل الناظر هذا الموضع.
فرع:
12221- إذا أقام المدعي بينة، وقضى القاضي بها، ولم يُزِل بعدُ يدَ المدعى عليه حسّاً، ولكن قضى باستحقاق إزالتها، فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بعد نفوذ القضاء باستحقاق يده؛ فهذا مرتب على ما إذا أزال يده، ثم أراد أن يقيم البينة كما تقدم تفصيله، فإن قلنا: بينته مسموعة بعد إزالة يده حساً، فلأن تسمع حيث لم تزل يده بعدُ أولى. وإن قلنا: إذا أزيلت يده، لم تسمع بينته مستندة إلى يده، فهل تسمع إذا جرى القضاء ولم تزل اليد بعدُ؟ فعلى وجهين، والفرق لائح. وقد نجز مقدار غرضنا في القسم الأول.
القسم الثاني
12222- فأما إذا تعلق التداعي برجلين في عينِ تحت أيديهما، وذلك إذا تنازعا داراً في يدهما، فقال كل واحد منهما جميع الدار لي، فتنزيل المسألة من طريق التصوير أن كل واحد منهما مدعىً عليه في نصف الدار مدع في نصفها؛ فإن يد كل واحد منهما ثابتة على نصف الدار، فأول ما نذكره بعد التصوير أنه إذا لم يكن لهما بينة، فلا شك أنهما يتحالفان. ونص الشافعي في الكبير أنه يحلف كل واحد منهما على النفي. ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات في أول الأمر، ونَصَّ في البيع على أن المتبايعين إذا تبايعا، وتنازعا، وتحالفا، يجمع كل واحد منهما بين النفي والإثبات؛ فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل في المسألتين قولين بالنقل والتخريج:
أحدهما: أنه يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات.
والثاني: يحلف على النفي فيهما.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرّق بأن قال: في البيع مُثبَتُه في ضِمْنِ منفيِّه ضرورةَ؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد. وفي مسألة الدار ليس المثبت في ضمن المنفيّ، لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه. وإن شئت عبرت عن هذا بعبارة أخرى، وقلت: في البيع ما هو مدعىً فيه غير ممتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ إذ العقد واحد. وفي مسألة الدار ما هو مدعىً فيه يمتاز عما هو مدعىً عليه فيه؛ فإن النصف الذي يدعيه غيرُ النصف الذي يُدّعى عليه.
ومن هذا الموضع نقول: ما يتعلق بتحالف المتبايعين، فلسنا نخوضُ فيه؛ فإنه مستقصىَ في كتاب البيع. وإنما نذكر ما يتعلق بتنازع المتداعيين في الدار، وقد حصل طريقان:
أحدهما: القطع بأنهما إذا تداعيا، لم نحلّف واحداً منهما ابتداء إلا على النفي، ثم سنفرع ما يؤدي إليه الكلام. والطريقة الثانية: أن المسألة على قولين:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: إن كل واحد منهما يحلف على النفي والإثبات يجمع بينهما في يمين واحدة. والأصح القطع بالاقتصار على النفي.
التفريع عليه:
12223- إذا أخذنا بالتحليف، وبدأنا بأحدهما باختيار القاضي، أو بالقرعة-وفيه اختلاف ذكرته في كتاب البيع- فيحلّفه على النفي فيما هو تحت يده، ينفي عنه دعوى صاحبه، ولا ينبغي أن ينفي ملكه عن جميع الدار؛ فإنه مدعٍ في نصفٍ، والمدعي لا يحلف على النفي، فإن حلف، ونفى دعوى صاحبه في النصف الذي في يده، وحلفناه صاحبه، فحلف على هذا الوجه، فَيُقَرُّ كل واحد على نصف الدار.
وإن حلفنا الأول، فحلف على النفي وحلّفنا الثاني، فنكل، رددنا اليمين على الأول، فيحلف الآن على إثبات الملك في النصف الذي هو في يد صاحبه، وهذا مثار إشكال نوضحه بسؤال، ثم نستعين بالله ونجيب عنه.
فإن قيل: كيف تخصص يمينه بالنصف الذي في يد صاحبه؟ وهذا على الشيوع لا يتصور التعيين فيه؟ فأي اختصاص ليمينه بأحد النصفين؟ وكيف يتميز نصف عن نصف؟ ثم كيف يستحق جميع الدار بيمينٍ على نصفها؟ ولو قلنا: يحلف على جميع الدار، لكان حالفاً على الإثبات فيما هو مدعىً عليه فيه؟
قلنا: يمين الرد تُثبت ما كان ينفيه المستحلَف لو حلف على النفي، فإذا لم يحلف ونكل، جاء المردود عليه بإثبات ما كان ينفيه، ومعلوم أنه كان لا ينفي إلا النصف الذي هو صاحب اليد فيه؛ فيقع الرد في النصف؛ وتثبت الدار في يد المردود عليه على حكمين، نصفها بحكم الملك المتلقى من يمين الرد، وهي كَبيِّنةٍ أو إقرارٍ، ونصفها بحكم اليد المستقرة؛ فإنه حلف فيها نافياً دعوى صاحبه، فانقطع خصامه فيه، إلا أن يجد بينة.
فإن قيل: لو وجد بينة فيما نكل فيه، لكان يقضى له أيضاً؟ قلنا: أولاً، ليس الأمر كذلك، فإنا إذا جعلنا يمين الرد بمثابة الإقرار من المدعى عليه، فقد نقول: لا نسمع بينة المدعى عليه، ثم هذا لا يقدح في غرضنا؛ فإن ما جرى فيه يمين الرد، فقد صار ملكاً، والخصومة بين الشخصين، والمراد به أنه صار ملكاً لهذا في حق ذاك.
فإن قيل: إذا كان يحلف على النصف، فكيف صيغته؟
قلنا: يقول: بالله إن النصف الذي في يدك ملكي. وهذا على هذا الوجه متحقق، وكذلك يشتري الإنسان الجزء الشائع في يد إنسان، فإن الدار المشتركة بين شريكين إذا أراد أحدهما بيع نصيبه، فالمشتري يقول: اشتريت منك نصفك، فكما ينسب النصف إلى ملك الشريك، ينسب النصف إلى يد الشريك، وقد نطيل الكلام إذا أعضل شيء، وأعلمُ أنه لا يتبرم به طالب الحقيقة.
ولو عرضنا اليمين على أحدهما أولاً، فنكل، وقد جرى التداعي بينهما، فنحلّف الثاني على النفي والإثبات جميعاً، وإذا نفى وأثبت وحلف عليهما، فقد أطلق الأصحاب أن الملك يثبت له في جميع الدار، وهذا إنما أطلقة من لم يغُصْ.
والوجه أن نقول: يمين الرد تجري في نصف الدار على الإثبات، ويمين النفي تجري في نصفها، ولا حاجة فيما هو يمين الرد إلى استدعاء الخصم والتماسه، بل يكفي فيها نكوله، فأما يمين النفي في النصف الآخر، فلا سبيل إلى عرضها ما لم يطلبها الخصم؛ فإنها حقه؛ فتبين أن اليمين إن كانت واحدة يجب أن تكون مطلوبة من وجه، ويجوز ألا تطلب من وجه، كما نبهنا عليه.
وإذا حصلت الإحاطة بما ذكرناه، فلو قال المردود عليه: بالله إن هذه الدار لي وليس لصاحبي هذا فيها حق ولا ملك، فلا يضر إضافة النفي والإثبات إلى جميع الدار؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض.
ولو أراد أن يقول: بالله إن النصف الذي في يد صاحبي لي، ولا حق له ولا ملك في النصف الذي هو في يدي، لكان جائزاً على الأصل الذي مهدناه.
ثم إذا نكل الأول، وأردنا تحليف الثاني؛ أيكتفى بيمين واحدة، أم لابد من يمينين؟ فعلى وجهين: أقيسهما- تعدد اليمين لتعدد المقصود وتغايرهما، بل لاختلافهما؛ فإنه في البعض مدعىً عليه، وفي البعض مردود عليه، وهما في التحقيق خصومتان.
ومن أصحابنا من قال: تكفي اليمين الواحدة إذا وقع التداعي بينهما على الجمع، وطلبُ الاختصار قاعدةُ فصل الخصومات. وقد نجز ما أردنا فيه إذا تداعيا داراً قارّة في أيديهما، ولا بينة في الخصومة.
12224- فأما إذا كان في الواقعة بينة، فلا يخلو: إما أن يكون لأحدهما بينة، وإما أن يكون لكل واحد منهما بينة على وفق دعواه.
فأما إذا كان لأحدهما بينة وأقامها، جرى القضاء بها، ولكن في المسألة شيء يجب التنبه له؛ وهو أن صاحب البينة قد أقامها في النصف الذي في يده ابتداء-قَبل أنْ قامت عليه بينة من المدعي- وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أن بينة ذي اليد لا تسمع ابتداء إذا لم يكن للمدعي بينة.
ثم قال القاضي: الأمر وإن كان كذلك، فقد شهدت له البينة بالنصف الذي يدعيه، وجرت البينة على الترتيب فيه. والنصف الثاني دخل في الشهادة على طريق التبع، فتساهل الأصحاب في قبولها، وهذا الذي ذكره فيه احتمال بيّن، فلا وجه لإتباع النصفِ النصفَ، وكل نصف مقصود في نفسه، يجب رعاية قياس الخصومة فيه، ولعل المعنى الذي يسوّغ سماع البينة كما ذكره القاضي أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصوا شهاداتهم بأحد النصفين على التمييز مع تحقق الشيوع. وفي المسألة احتمال لائح.
12225- وإن كان لكل واحد منهما بينة، فأقام كل بينتَه، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف. قال القاضي: يجب أن يقال: من أقام البينةَ ابتداء منهما يقيم البينة في النصف الذي يدعي عليه مرة أخرى، بعد أن قامت بينة صاحبه عليه ثانياً؛ لأنه أقامها قبل الاحتياج إلى الدّفع، وهذا بناء منه على المذهب الظاهر في أن بينة صاحب اليد لا تسمع قبل مسيس الحاجة، وهو منْقدِح حسن لا بحث فيه، وقد انتجز مقدار الغرض في القسم الثاني. فأما
القسم الثالث
12226- فمضمونه كلام، فيه إذا ادعى رجلان شيئاً في يد ثالث، ادعى كل واحد منهما لنفسه بكماله، وأقام كل واحد منهما بينة على حسب دعواه، ففي المسألة قولان في الأصل:
أحدهما: أن البينتين تتساقطان وتتهاتران، والرجوع بعد سقوطهما إلى يمين المدعى عليه. والقول الثاني- أن البينتين تُستعملان.
ثم إذا قلنا بالاستعمال، ففي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: أحدها: أنا نقرع بين الخصمين، فمن خرجت له القرعة، قضينا له بما ادعاه، وخاب صاحبه، وعلى هذا القول هل يحلف من خرجت له القرعة ضماً لليمين إلى القرعة؟ فعلى قولين. والقول الثاني-من الأقوال الثلاثة- أن البينتين تستعملان بالوقف إلى أن يصطلحا. والثالث: أن المدعى يقسم بينهما نصفين، إذا كان المدعى قابلاً للقسمة. ولسنا نعني بقبول القسمة في هذا الباب قبول التبعيض ظاهراً؛ فإن المدعى لو كان عبداً أو دُرّةً مثلاً، فليس قابلاً للانقسام من طريق الحسّ والعِيان، ولكن المعنيّ بالانقسام في هذا الباب أن إضافة النصف إلى ملك كل واحد ممكن لا استحالة فيه مع الشيوع، فهذا هو المراد في قولنا: "إذا كان المدعى مما يتصور انقسامه". ولا يخفى ما ذكرناه على الناظر، إن شاء الله.
12227- وعلينا بعد هذا أن نتكلم في نوعين:
أحدهما: في كلام الأصحاب في محل القولين الأولين في التهاتر والاستعمال. وحاصل القول في هذا يستدعي ذكرَ ثلاثِ صور: إحداها- أنه إذا ادعى كل واحد الشيءَ على وجهٍ يمكن تقدير صدق البينتين على ذلك الوجه على الجملة، وإن كانتا على التناقض في المعنى، وذلك بأن يقال: لعل شخصاً مالكاً أوصى لزيد بجميع هذه الدار، وسمع شهودُه ذلك، وأوصى ذلك الشخص بجميع الدار للمدعي الآخر، وسمع شهودُه ذلك، وأقام كل واحد منهما شهودَه. ولم يَشْعر شهودُ زيد بالوصية لعمرو، ولا شهودُ عمرو بالوصية لزيد، فيقرب تأويل الصدق على هذا الوجه. هذه صورة.
والصورة الثانية- أن تقع الشهادتان على وجه يبعد تأويل تصديقها، وهو مثل أن تشهد إحداهما لمقيمها بالشراء من شخص، وتشهد البينة الثانية لمقيمها بالشراء من ذلك الشخص مع اتحاد التاريخين، فتأويل الاجتماع على التصديق بعيد، وكذلك إذا أسند كلُّ بيّنةٍ الملكَ في البهيمة المدّعاة إلى وقوع نتاجها في ملك المدعي، والنتاج مما لا يتكرر، فلا يحتمل صدق البينتين بوجه.
والصورة الثالثة- أن تقع البينتان على التكاذب قطعاً من غير خيال. وذلك بأن تشهد إحداهما على قتل شخص في وقت وحزّ رقبته، وتشهد الأخرى على بقائه حياً متصرفاً في ذلك الوقت وبعده، ويقرب من هذا النتاجُ.
والغرض أنهما إن تكاذبتا قطعاً، فمن أصحابنا من قطع بالتهاتر، ومنهم من أجرى القولين، وإن احتمل تأويلاً-كما ذكرناه في الوصية- فالقولان في التهاتر والاستعمال جاريان. فإن قيل: هلاّ قطع قاطعون بالاستعمال؟ قلنا: لم يقطع به أحد؛ لأن البينتين في ظاهرهما متناقضتان ولا تَرجُّح، وتعارضُ الظاهرين إذا لم يترجح أحدهما في الظهور والبعد عن التأويل كتعارض النصّين، والتأويل لا يتطرق إلى واحدة منهما.
هذا وجهٌ في التصرف.
والوجه الثاني- أن الأقوال الثلاثة في كيفية الاستعمال تجري حيث يمكن جريانها، وقد يتعذر جريان بعضها، فليكن إجراؤها على حسب التصور، وقد قال الأئمة: إن كان المتنازَع نكاحاً في امرأة تنازعها رجلان، فلا شك أن قول القسمة لا يجري به.
قالوا: كذلك لا يجري قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غيرُ ممكن، ولا معنى لحبس المرأة أبداً، وأما القرعة: فقد تردد فيها الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن قول القرعة جارٍ، وذهب آخرون إلى أنه لا يجري، فإنا نمتنع عن إجراء القرعة في الطلاق إذا استبهم، فيجب الامتناع منها إذا وقع النزاع في استحلال البضع بالنكاح؛ فإذاً ينحسم أدوال الاستعمال بجملتها، فنضطر إلى القطع بالتهاتر.
فلو كان المتنازَع عقدَ بيع، فقول القرعة جارٍ، وامتنع بعض أصحابنا عن إجراء قول الوقف بناء على أن البيع لا يقف، وهذه غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في البيع، إنما هو توقف العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، فأما التوقف في الخصومات، فلا يمتنع فرضه في البيع.
والغرض مما ذكرناه أن يتبين الناظر أن جريان أقوال القسمة لا يعم كل صورة. فإذا خضنا في المسائل أوضحنا هذا المقصود، إن شاء الله.
12228- ثم إن المزني اختار لنفسه قولَ التهاتر، وارتضى للشافعي قول القسمة، أما اختياره لنفسه، فلا معترَض عليه فيه، وليس مساعَداً في اختيار قول القسمة للشافعي، وقد أبطله الشافعي في مواضع، وقال: من قال بالقسمة دخلت عليه شناعة؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين.
12229- وتوجيه الأقوال بعد ذلك على إيجاز: من قال بالتساقط؛ تعلق بالتضاد، واستشهد بتعارض أدلة الشريعة، ومن قال بالاستعمال تعلق باشتمال الخصومة على البينتين، ولا ننكر أن الأَوْجَهَ التهاترُ، ثم قول القرعة يوجّه بجريان القرعة في مواضع الإشكال، وقولُ القسمة يوجَّه باستواء المتداعيين، وتعلُّق كل واحد منهما بما لو انفرد به لقضي به، فالبينتان بمثابة الاشتراك في يده، وأعدل الأقوال في الاستعمال قول الوقف؛ فإن البينتين متفقتان على كون المدعى عليه مبطلاً، فبعُد إحباطهما، فاستعملنا البينتين في إزالة يد المدعى عليه، وعسُر إمضاؤهما على التفصيل بين المتداعيين، فأورثا إشكالاً بينهما، واقتضى ذلك التوقف إلى الاصطلاح.
وقد انتهى ما أردناه في تمهيد أصول الكتاب، ونعود بعده إلى ترتيب المسائل.
فصل:
قال: "وسواء أقام أحدهما شاهداً وامرأتين والآخر عشرة... إلى آخره".
11230- إذا أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الآخر رجلاً وامرأتين، لم تترجح إحدى البينتين على الأخرى باتفاق الأصحاب.
فإن أقام أحدهما شاهدين، أو شاهداً وامرأتين، وأقام الآخر شاهداً وأراد أن يحلف معه؛ ففي المسألة قولان:
أحدهما: أنا نرجح البيّنة التامة على الشاهد واليمين. وهذا هو الأصح؛ فإن الشاهدين إذا شهدا، كانت شهادتهما حجة مستقلةً، غيرَ آتية من قبل المدعي، ومن أراد أن يحلف مع شاهده، فحجته تتم بقولٍ من جهته.
والقول الثاني- أن البينتين تتساويان، لأن كل واحدة بينةٌ، لو انفردت، لوقع القضاء بها.
ولو أقام أحد الخصمين شاهدين، وأقام الثاني عشرة من الشهود، أو ثلاثة، فالمنصوص عليه في الجديد أنا لا نرجح بينة على بينة بعدد الشهود، وللشافعي قول في القديم أنا نرجح إحدى البينتين بمزيد العدد على الأخرى، وهذا ليس يبعد توجيهه، أما وجه القول الجديد، فهو أن كل بينة كاملةٍ مستقلة، والزيادة لا حاجة إليها، فوجودها وعدمُها بمنزلة. وهذا منطبق على قواعد الفقه.
ووجه القول القديم أن الأصل الذي عليه التعويل الثقة. كما يعتبر ذلك في الروايات، ثم الترجيح يقع بكثرة الرواة في الرأي الظاهر؛ فليقع الترجيح بها في الشهادة، ولتكن الشهادة في ترجيح الثقة كالرواية في أصل الثقة.
والقائل الأول يقول: التعبد في الشهادات أغلب، بدليل أن العدل الواحد قد يعدل في الثقة جمعاً في الرواية لاختصاصه بمزيد التثبت والورع، ولا تقوم الحجة بقول عدل واحد في الشهادات.
وخرّج أصحابنا التفاوت في الورع والتثبت بين البينتين على وجهين، كما ذكرناه في التفاوت في العدد، وهذا قياس سديد كالرواية، فكانا في الجديد لا نلتفت إلى طرق الترجيح الجارية في الرواية، وفي القديم نتمسك بما يرجح الرواية.
ثم إذا كانت كل بينة بحيث لو انفردت، لاستقلت، ولو شهد عدلان من جانب، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت، وشهد في مناقضتهم عشرة مثلاً من أوساط العدول، فيتعادل الورع ومزية التثبت مع زيادة العدد، ويجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهد بين خبرين يُرويان على هذا الوجه، إذا فرعنا على القديم.
وأما إذا فرعنا على الجديد، فلا حاجة إلى هذا.
وقد أطلق الأصحاب أقوالهم بأن الرجلين الشاهدين في معارضة الرجل والمرأتين، وليس يبعد عندي إذا فرّعنا على القديم أن نرجح الرجلين؛ بدليل أن من أقام رجلاً شاهداً وحلف معه في المال أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما لم يجز.
والذي بقي في الفصل فرضُ بيّنتين من خارج وداخل، مع اختصاص إحداهما بما يقع الترجيح به تفريعاً على القديم، فإذا فرعنا عليه نظرنا؛ فإن كان ما يوجب الترجيح في بينة صاحب اليد، فلا إشكال؛ فإن بينته رجحت باليد وغيرها، وإن كان في جانب الخارج كثرة في الشهود، أو اتصاف بمزية الورع، فقد اختلف أصحابنا-والتفريع على القديم- فمنهم من يحكم باستواء البينتين لاعتضاد إحداهما باليد، واختصاص الأخرى بالمزية التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قدّم اليد على كل ترجيح؛ فإن اليد مشاهدةٌ محسوسة، والأسباب التي يقع الترجيح بها غايتها مزيد تغليب ظن في أمر لا يُحسّ، وذلك مفرع على الترجيح.
فصل:
قال: "وإن أراد الذي قامت عليه البينة أن يُحلّف صاحبه... إلى آخره".
12231- إذا أقام المدعي بينةً على ثبوت استحقاقه، فأراد المدعى عليه أن يحلف معها، وقد شهدت البينة له، لم يُجَب المدعى عليه إلى ما يطلبه؛ ويقال له: قد بيّنت البينةُ ملكَه، فلا افتقارَ معها إلى يمينه على الملك.
وإن قال المدعى عليه بعد قيام البينة: قد باع هذا مني، قلنا: ثبتت الخصومة الأولى بجهتها، وأنت تريد أن تبتدىء الدعوى، فلك أن تحلّف على نفي البيع صاحبَك.
ولو قال المدعى عليه: أُحلِّف خصمي: "لا يعلم أن شهوده مجروحون"، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر القاضي وجهين:
أحدهما: أنه لا يسمع منه هذا؛ لأنه لم يدّع لنفسه حقاً، وإنما طعن في بينةٍ قد عُدّلت ظاهراً وباطناً، ومطعن الخصم غير مقبول إذا لم تقم حجة.
ومن أصحابنا من قال: دعواه مسموعة، والمدعي مدعو إلى الحلف؛ من جهة أنه لو أقر لخصمه بما قال من جرح الشهود، فالخصم ينتفع بإقراره وتصديقه، وكلّ ما ينتفع به الخصم لو فرض الإقرار به، وجب سماع الدعوى فيه؛ فإن التحليف تلو الإقرار؛ إذ المقصود منه حمل المحلَّف على الإقرار إذا تورعّ عن اليمين.
قال القاضي: يمكن أن يُبنى على هذا التردد أصل ضابط فيما يجري التحليف فيه، فيقال: حد ما يجري التحليف فيه ماذا؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن حدّه أن يدعي حقاً، والثاني: يكفي أن يَدّعِي ما لو أقر به الخصم، لنفع إذا كان لا يؤدي إلى فساد-احترازاً عن منع تحليف الشاهد والقاضي- فعلى هذا لو ادعى عيناً على إنسان، فقال المدعى عليه: هو أقرّ لي بهذه العين، ولم يقل هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار، فهل يقبل قوله؟ وهل يحلّف صاحبه على نفي الإقرار؟ فعلى الوجهين؛ فإن من ادعى إقراراً ليس يدعي لنفسه حقاً، ولكن لو أقر صاحبه بما ادعاه، لنفعه، فيخرج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه. وكذلك المدعي في الابتداء، إذا لم يدّع استحقاقاً، ولكنه ادعى أن صاحبه أقر له بمال، فهل تقبل الدعوى ابتداء على هذا الوجه؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك إذا قذف، ثم ادعى على المقذوف أنه زنا، وطلب يمينَه، فهذا خارج على الوجهين.
وكذلك إذا ادعى على إنسان مالاً، فقال المدعى عليه: قد حلّفني في هذه الدعوى مرة، فهل يقبل قوله؟ فعلى ما قدمنا من الوجهين. فانتظمت هذه المسائل على نسق واحد.
فصل:
قال: "ولو ادعى أنه نكح امرأة، لم أقبل دعواه، حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها... إلى آخره".
12232- المنصوص عليه أن من ادعى نكاحاً مطلقاً، لم تسمع دعواه، حتى يفصّل أو يفسّر، وعماد التفصيل التعرض لثلاثة أركان: أحدها: الولي، والآخر- الشاهدان، والآخر- الرضا ممن يطلب منه الرضا.
وظاهر النص أن من ادعى شراء أو بيعاً، كفاه إطلاق الدعوى، ولم يلزمه تفسيره بالوجوه المرعية في الصحة.
وخرّج بعض أصحابنا في النكاح قولاً من البيع، قالوا: تقبل الدعوى في النكاح مطلقة؛ من غير تعرض للتفسير.
توجيه القولين: من شرط التفسيرَ وجّه قوله بما اقتضاه الشرع في النكاح من رعاية أسباب التأكيد. ولذلك اشترط فيه الولي والشهود، ومن لم يشترط التفسير، اتجه له القياس علي البيع.
ومن أصحابنا من قال: إن قال: هذه زوجتي، ولم يعلق دعواه بالعقد، سُمع مطلقاً، وإن ادعى الابتداء، فلابد من البيان، فحصل في النكاح ثلاثة أقوال:
- اشتراط التفسير ابتداء ودواماً.
- والاكتفاء بالإطلاق ابتداء ودواماً.
- والفصل بينهما.
ومن أصحابنا من خرّج في البيع قولاً من النكاح، واشترط فيه التفسير.
12233- وإذا أردنا ترتيب الدعاوى، فدعوى القصاص على الإطلاق غير مسموعة بلا خلاف، حتى يفسّرها بذكر ما يُرعَى في موجِب القصاص.
وإذا ادعى مالاً مطلقاً-ديناً أو عيناً- فلا يشترط التفسير، بلا خلاف.
وفي النكاح نصٌّ وقولان مخرّجان، والنص في البيع قبول الدعوى المطلقة، وفيه تخريج. ثم إن شرطنا التفسير في النكاح، فمعناه التعرض للأصول الثلاثة: الولي، والشاهدين، والرضا.
ولا يشترط التعرض لانتفاء المفسدات، مثل أن يقول: نكحتها وهي خلية عن الزوج والعدة والإحرام؛ فهذا وما في معناه لا يشترط التعرض له؛ لم يختلف أصحابنا فيه.
وإذا شرطنا التفسير في البيع، ذَكَر أركان البيع، ولم يتعرض لانتفاء المفسدات، فيناظر الولي كون البائع من أهل العقد، ولا شهادة في البيع، والعماد فيه التعرض للرضا في قابل البيع، مع ذكر ثمن صحيح. وهذا قول ضعيف.
وإذا لم يشترط التفسير، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين. والوجه عندي اشتراط التقييد بالصحة في النكاح؛ فإنها لفظة جامعة دالة على المقصود، وإذا شرطنا التفسير في الدعوى، فشرطنا على الشهود أن يفسّروا الشهادة. وإن لم نشترط ذلك في الدعوى، لم نشترط في الشهادة؛ فإن الشهادة تبين الدعوى، فكانت على حسبها، وهي مختصة بلفظ الشهادة تعبداً.
ولو أقرت المرأة بالنكاح، فالأصح قبول إقرارها، وقد مضى ذلك مفصلاً في كتاب النكاح، والذي نذكره الآن أنا إذا اشترطنا التفسير في الدعوى، هل نشترط التفسير في الإقرار ليصح؟ المذهبُ أنا لا نشترط. ومن أصحابنا من شرط التفسير في الإقرار، وهذا يضاهي ما ذكرناه في الزنا؛ فإن شهود الزنا يتناهَوْن في التفسير، ولا يرعى في شهود القذف التفصيل. وهل يشترط في الإقرار بالزنا التفصيل؟ فعلى قولين.
ونحن نعقد فصلاً متصلاً بما ذكرناه، ونبين به أصلاً كثير التداور في الدعاوي والبينات، فلنبين الأطراف، ونربطه بالنكاح.
فصل:
12234- ظهر اختلاف الأصحاب في أن يمين الرد يُنرَّل منزلةَ البينة، أو ينزل منزلةَ إقرار المدعى عليه، ثم من الأصحاب من استعمل هذين القولين في غير وجهه.
ونحن نرى أن نرسم ثلاثَ مراتبَ، تحوي كلُّ مرتبة ما يتعلق بها، ثم تنتصب معتبراً في المسائل، فنقول:
إذا ادعى الرجل على امرأة خلية أنها زوجتُه، فإن قلنا: إقرارها مقبول، فالدعوى مسموعة عليها؛ اعتباراً بكل مدّعىَ يصح الإقرار به، وإن قلنا: لو أقرت بالنكاح، لم يُقبل إقرارها، فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ فعلى قولين مبنين على أن اليمين المردودة كبيّنة، أم هي بمثابة الإقرار؟ فإن قلنا: هي بمثابة الإقرار، فلا تُحَلَّفُ المرأة؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكُل، ويحلف هو يمين الرد، ولو أفضت الخصومة إلى ذلك، لما ثبت غرض المدعي.
وإن قلنا: يمين الرد كالبينة، فتُحَلَّف المرأة، فإن حلفت، فذاك، وإن نكلت، ردت اليمين على المدعي، فيحلف ويثبت النكاح بيمينه، كما يثبت ببينة يقيمها، وهذان القولان جاريان على وجههما؛ فإنا إن رَدَدْنا لرد الإقرار، فهو قياس بيّن، وإن قبلنا لمكان يمين الرد ونزولها منزلةَ البينة، فقد أحللنا يمين الرد محل البينة في حق المدعى عليه على الخصوص، ولم يتعده. وإذا ذكرنا المرتبتين بعد هذا، بأن أثرُ ما ذكرناه الآن.
12235- ووراء ذلك بحثٌ، وهو أنا إذا رددنا إقرارها، فهلاّ رددنا إنكارها، لتكون مسلوبةَ العبارة: أقرت أو أنكرت، وهذا هو الذي يليق بمذهب الشافعي في سلب عبارة المرأة؟ قلنا: لا ينتهي الكلام إلى هذا الحد، والدليل عليه أن العبارة ليست متأصلة في الإنكار، ولذلك نقيم السكوتَ مقامه، وهذا لا ينحل انحلالاً فاحشاً أيضاً، فإنا نشترط أن تكون المرأة من أهل العبارة، حتى تنكر أو تسكت، فيقام سكوتُها مقامَ إنكارها.
فإن قيل: هلا قلتم: يحلف المدعي وإن لم تحضر المرأة؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك، فلابد من ارتباط اليمين بإنكارٍ من المرأة، أو من وكيل لها؛ فإن إرسال الدعوى واليمين لا ينتظم عليها.
والذي يغمض في هذا المقام أنا إذا قلنا: إقرار المرأة مردود، فلو حضرت وأقرت لما ادعى الرجل النكاح، فماذا نقول؟ وما أنكرت ليحلف المدعي؟ وإقرارها لم يُثبت المقصود، ولو قلنا: ينحسم يمين الرد بإقرارها، لكان ذلك حيلة عظيمة في دفع المدعي عن إثبات ما يبغيه بيمين الرد، وهذه الحَيْرة جاءت من التفريع على أصلين ضعيفين:
أحدهما: أن إقرار المرأة لا يُقبل، والآخر- أن يمين الرد كالبينة، ثم إذا دُفعنا إلى ذلك، فالوجه أن نجعل إقرارها كسكوتها، ونحلّف المدعي إذا قلنا: يمين الرد بمثابة البينة.
وقد نجز الكلام في هذه المرتبة، وانكشف القول عن خزيٍ عظيم، وهو ألا يثبت النكاح بإقرار المرأة، ويثبت بيمين المدعي ابتداء، والذي يحقق هذا أن المرأة لو أرادت أن تحلف، فلها ذلك. وحلفها يقطع الخصومة، وعُرِض اليمين عليها مستقلاً، ولو أقرت، كانت كما لو أنكرت ونكلت عن اليمين.
12236- المرتبة الثانية- نفرضها في النكاح أيضاً ونفرعها على قبول إقرارها، ونقول: إذا ادعى نكاحَ المرأة رجلان، فأقرت لأحدهما، وقبلنا إقرارها، فلو ادعى الثاني عليها، فهذا قد فصلناه في كتاب النكاح، ونحن نُعيد-مما ذكرناه- ما تمسّ الحاجة إليه في نظم مقصود هذا الفصل، فنقول: ذهب بعض أصحابنا إلى أنها إذا أنكرت دعوى الثاني، ونكلت عن اليمين، وحلف هذا الثاني، ففي ثبوت النكاح في حقه وانبتات النكاح في حق الأول قولان مبنيان على أن يمين الرد بينة أم هي بمثابة إقرار الخصم؛ فإن جعلناها كالبينة، أثبتنا النكاح في حق الثاني.
وهذا سرف عظيم؛ فإن يمين الرد إن جعلت كالبينة في حق المدعى عليه في أمرٍ لا يتعداه، فله وجهٌ على حالٍ، فأما تقديرها بينةً لإبطال حق الغير، فهذا على نهاية البعد.
وهذا المسلك الذي حكيناه عن بعض الأصحاب مشهور في المسائل مُردَّدٌ في أصول: منها أنه إذا ادعى رجل على رجل قَتْلَ خطأ، فأنكر المدعى عليه، ثم نكل عن اليمين، وحلف المدعي يمين الرد، فالدية هل تضرب على العاقلة؟ خرّجوه على ما ذكرناه. وهو بعيد.
12237- والمرتبة الثالثة-وهي أبعدها- ذكرها الشيخ في شرح الفروع، وقال: إذا ادعى رجل على امرأة- يحسبها خلية- نكاحاً، وجرينا على قبول إقرارها، فأنكرت ونكلت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، فحكمنا بالنكاح، وسلمنا المرأة إلى الحالف فجاء مدعٍ وادعى نكاحها، وأقام على ذلك شاهدين عدلين، قال رضي الله عنه: إن قلنا: يمين الرد بمنزلة إقرار الخصم، فالبينة مقدمة في هذه الصورة، والمرأة مسلّمة إلى الذي أقام البينة، وإن قلنا: إن يمين الرد بمثابة البينة، قال: سبيلهما سبيل بينتين تعارضتا، فإن حكمنا بالتساقط، فهما على مجرد الدعوى منها، ولا يخفى تفصيل ذلك، وإن حكمنا باستعمال البينتين، فلا يجيء هاهنا إلا قول القرعة، والحكم بها.
وهذا الذي ذكره على نهاية البعد؛ فإن من قال: يمين الرد بمثابة البينة، فإنما قدّر تقديراً حاصله أن يثبت بيمين الرد ما لا يثبت بالإقرار إذا ترتبت اليمين على إنكار من تصح عبارته على الجملة، ولا يصح إقراره، فجعل اليمين من الخصم حجة زائدة على الإقرار المجرد مما لا ينفذ إقراره. وإذا انتهى الأمر إلى تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة عدلين يقيمها آخر، فقد بلغ مبلغاً لا يحتمل، وآل الأمر إلى تقديم قول الخصم المؤكد باليمين على شهادة العدول، وهذا بعيد لا سبيل إلى القول به.
وإنما أوقَعْنا هذا الكلامَ في المرتبة الثالثة لسببيّة أن هذا أبعد من الحكم بيمين الرد على ثالث لا تتعلق الخصومة به؛ فإن ذلك الثالث لم تصدر منه حجة، فيقال: تعارضت اليمين مع حجة. ونحن-فيما نظن- لا نُخلي تقديماً وتأخيراً وترتيباً في مساق الكلام عن غرض فقهي، لو تأمل الناظر، لاح له إن شاء الله عز وجل.
فرع:
12238- إذا ادعت المرأة عقدَ النكاح على الرجل، فإن ذكرت في دعواها صداقاً، أو نفقة في النكاح، وقصدت إثبات ما ذكرته من المال، فدعواها مقبولة فيما تقصده من المال.
وإن لم تتعرض لذكر مال، ولكنها ادعت النكاح المجرد، فهل تُسمع دعواها في ذلك أم لا؟ ذكر صاحب التقريب والعراقيون وجهين:
أحدهما: لا تسمع الدعوى؛ فإن المسألة مفروضة فيه إذا كان الزوج منكِراً للنكاح؛ فإنه لو أقر، لثبت النكاح بتقارّهما، فإذا أنكر، فأحد الوجهين أنه تلغو دعواها، ولو أرادت إقامةَ البينة على النكاح، لم تسمع منها؛ فإن النكاح حقه عليها، وله الدعوى فيه عليها؛ فيبعد انعكاس الترتيب في الدعوى.
والذي يوضح ذلك أنه إذا أنكر كونَها منكوحة له، فتحرم عليه بذلك القول، فلا معنى لقبول دعواها والحالة هذه، ثم إذا لم نقبل دعواها، لم نسمع بينتها.
والوجه الثاني- أنه تقبل دعواها؛ فإن لها حقوقاً في النكاح، والنكاح مشتمل عليها؛ فدعوى النكاح تتضمّن تلك الحقوق. ثم هذا القائل يقول: إذا أنكر الرجل أئه نكحها أصلاً، أو قال ليست منكوحة لي، وفسّر ذلك الإنكار بنفي أصل النكاح، أقامت المرأة البينة أنه نكحها نكاحاً صحيحاً، فيثبت النكاح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً. فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد، فلا تقام البينة عليه، وإن اعترف بالعقد ولكنه زعم أنه شغر من الولي، أو لم يَجْر بمحضر شاهدين، فأقامت المرأة البينة أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة، فنقبل منها ونُثبت النكاح ونُثبت حقوقَها، ولها طلب القَسْم إن كان للزوج نسوة سواها.
وهذا نقلٌ منا لما ذكره صاحب التقريب والعراقيون، والبحث وراء ذلك.
12239- فنقول: أما الوجه الثالث، فلا خير فيه، فإنه إذا أنكر صحةَ النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد، فليحذف هذا من البَيْن، ثم النظر بعد ذلك.
فنقول: الكلام في المسألة يتعلق بثلاث منازل: إحداها- أن تدعي المرأة النكاح، فيسكت الرجل، ولا يبدي إنكاراً، ولا إقراراً، ففي سماع البينة والحالة هذه وجهان:
أحدهما: لا تسمع البينة؛ من جهة أنها لم تتعرض إلا للنكاح، وهي لا تستحق بالنكاح على زوجها مُستمتَعاً، ولم تتعرض لحقوقٍ مالية، حتى نقدرَها مقصودةً بالدعوى.
والوجه الثاني- أن البينة مسموعة؛ لأنها ذاتُ حظ في النكاح نفسه، وهو جامع لحقوق مالية، منها النفقة التي تَدِرُّ شيئاً شيئاً، ولو أفردتها بالدعوى، لاحتاجت كلَّ يوم إلى معاودة الدعوى، فإذا سمعنا دعواها في النكاح وبَيَّنَتها، فيثبت أصل النفقة، وتستغني عن معاودة الدعوى.
هذه منزلة.
المنزلة الثانية- إذا أنكر الزوج أصل النكاح-والقول في هذه المرتبة يترتب على القول في الأولى- فإن قلنا: لا تسمع دعواها إذا سكت الزوج، فلا معنى لسماعها في هذه المرتبة، وإن قلنا: دعواها مسموعة في سكوت الزوج، فإذا أنكر هل تبطل الدعوى بعد ما سُمعت؟ فعلى وجهين مبنيين على قاعدة: وهي أن الزوج إذا أنكر النكاح، ثم اعترف به، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بعد تقديم إنكاره؟ وهذا مختلف فيه. وعندنا أن حقيقة الخلاف في قبول دعوى المرأة تتلقى من هذا. فإن حكمنا بأن اعترافه بعد إنكاره مقبول، وله إذا اعترف أن يغشاها، فالدعوى لا تبطل بإنكاره إذا سمعنا الدعوى في سكوته، وتترتب على الدعوى حقوقها المالية.
وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح عليه فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية عليه؟ ففيه احتمال وتردد.
وكل ذلك وراء قولنا: إنكار الزوج للنكاح، أو لشرط من شرائطه بمثابة الطلاق المُبين، كما قدمنا في ذلك نصَّ الشافعي حيث قال: "إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا واجد لطَوْل حرة، قال: هذا طلاق مبين " وقد أوضحنا في الخلع خروجَ هذا النص عن قياس الأصول، ومسيس الحاجة إلى تأويله إن أمكن تأويله، ولا تفريع عليه.
وما ذكرناه من التردد في الاعتراف بالنكاح بعد إنكاره لا يختص بالنكاح، بل كل من أنكر ملكاً وحقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه، ففيه الخلاف الذي ذكرناه.
هذا تحقيق هذا الفصل.
ومآل الكلام فيه رجع إلى تعلُّقِ دعوى المرأة في حالة السكوت بما ليست مستحقة فيه من وجه، وتعلُّقِ طرف منه في بعض الصور بإنكار الزوج، وتصوّر اعترافه بعده، وهذا يرجع إلى الكلام في بطلان الدعوى بعد سماعها.
وتمام الكلام في هذا أنا إذا أثبتنا دعواها، فلها حقوقها المالية، ولا خلاص منها إلا بالطلاق، وأما طلب القَسْم، فإن لم نصوّر اعترافاً بعد إنكار، ولم نصححه، فطَلَبُ الزوج بالقَسْم محالٌ، وهي محرمة عليه. وإن قلنا: يتصور منه الاعتراف بعد الإنكار، ففي طلب القَسْم منه احتمال، مع إصراره على دعوى التحريم، وإن كنا نثبت الحقوق المالية. وقد انتجز الغرض.
فصل:
12240- إذا ادعى الرجل الملك في عينٍ-هي في يد غيره- مطلقاً، وسمعنا دعواه، فشهدت البينة بالملك، وذكرت سببَ الملك، فقد قال القاضي: البينة مسموعة، وإن انفردت بذكر شيء لم تشتمل الدعوى عليه، وليس هذا كما لو ادعى ألفاً، وشهدت البينة له بألفين، فالألف الزائد لا يثبت. وفي ثبوت الألف المدعى وجهان، فإن لم نثُبته، ورَدَدْنا الشهادة فيه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في جَرْح الشهود حتى تُردَّ شهاداتهم على وجهٍ عموماً، وليس ذكر سبب الملك من هذا القبيل، فأصل الملك يثبت وفاقاً؛ فإن السبب ليس مقصوداً، وإنما هو كالتابع، والمقصود الملك، وقد وافقت البينة فيه الدعوى هكذا، وهو متجه، لم أر خلافاً فيه.
وفي ثبوت السبب-الذي لم يتعرض المدعي له- نظرٌ، والأوجه أنه لا يثبت، حتى لو قال المدعي بعد قيام البينة: صدق شهودي في ذكر السبب، قيل له: إن أردت ثبوته، فأعِد الشهادة، وهذا فيه تردد. ثم زاد القاضي فقال: لو ذكر المدعي سبباً في الملك، وشهدت البينة بالملك، وذكرت سبباً آخر، ففي المسألة وجهان:
أظهرهما- أن البينة لا تُقبل، ولا يثبت الملك للتناقض البيّن بين الدعوى والشهادة.
والوجه الثاني- أن البينة مقبولة؛ لأنها وافقت في أصل الملك، والسبب غير مقصود فلَغا ذكره.
ولو ذكر المدعي سبباً للملك، وشهدت البينةُ بالملك المطلق، ثبت الملك، قَطَعَ به، وهو كذلك؛ إذ لا تناقض وقد شهدت البينة بالمقصود.
ثم قال: "والأيمان في الدماء مخالفة لغيرها " وهذا من أحكام القسامة وقد تقصيناها في كتابها.
12241- وقال: "والدعوى في الكفالة بالنفس... إلى آخره".
قد تقدم الكلام في كفالة الأبدان، فإن أبطلناها، رددنا الدعوى فيها، وإن صححناها، فالدعوى فيها مسموعة، فإن أقام المدعي بينة على أن هذا تكفل ببدن خصمي فلان، ثبتت الكفالة، وإن لم تكن بينة، حلف خصمه، وإن نكل حلف، وألزمنا المدعى عليه حكم كفالة البدن. والغرض أن كفالة البدن إذا صحّحناها، فهي كسائر الحقوق المالية وغيرها مما تجري الدعوى واليمين وردها فيها.
فصل:
قال: "ولو أقام بينة أنه أكراه بيتاً... إلى آخره".
12242- المتكاريان إذا اختلفا، فقال المكري: أكريتك هذا البيت من هذه الدار بعشرة، وقال المكتري: بل اكتريت الدار كلها بعشرة، فإن كان لأحدهما بينة، حكمنا له بالبينة.
وإن لم تكن بينة تحالفا وترادّا؛ فإنهما متعارضان اختلفا في مقدار المعقود عليه؛ فكانا كالمتبايعين. وإن كانا يقيمان بيّنتين-كلُّ واحد بينةً على موافقته- فإن قضينا بتهاتر البينتين، سقطتا، وكأَنْ لا بينة، فيتحالفان.
وإن قلنا باستعمال البينتين، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال: أحدها: القرعة، والثاني: القسمة، والثالث: الوقف.
ولا شك أن القسمة لا جريان لها، فإنها إنما تعقد حيث يدعي رجلان شيئاً، وكان كل واحد مدّعياً جميعَه، وذلك الشيء مما يتصور الاشتراك فيه، ففي مثل هذا الموضع تجري القسمة، فأما إذا كان التنازع في النفي والإثبات، كما نحن فيه- فإن المكتري يدعي الكراء في الدار، والمالك ينكر العقدَ فيما يزيد على البيت، فلا تتصور القسمة بين النافي والمثبت.
وقول الوقف لا يجري أيضاً؛ فإن في المصير إليه تعطل المنفعة، وهي المقصودة بالدعوى، فيبقى قول القرعة.
وللأصحاب بعد التنبيه لما ذكرناه مسلكان- أحطت بهما من مرامزهم، وتفريعاتهم: منهم من قال: الاختلاف في كيفية الاستعمال في الجميع من باب التردد في الأَوْلى، فإذا اجتمعت جهاتُ إمكان الاستعمال في الجميع، اختار كل فريق مسلكاً، وهؤلاء يقولون: إن امتنع المختار، جوزتُ التمسك في الاستعمال بما بقي.
هذا مسلك، فإذاً نعول عليه وإن رأينا القسمة أو الوقف- فإذا تعذرا، نختار القرعة.
ومن أصحابنا من سلك مسلكاً آخر، فجعل كل ما يختار في كيفية الاستعمال متعيناً، حتى لا يجوز فرض غيره، فلا جرم إذا تعذر ما نختاره، حكم بتعذر الاستعمال، وإن كان ما صار إليه الباقون جارياً من طريق الإمكان، فالرجوع إلى التهاتر؛ فإن الاستعمال إذا عسُر، لم يبق إلا التناقض.
وهذا الذي ذكرناه نوضحه فيما نحن فيه، فإذا عسرت القسمة، وامتنع الوقف، وأمكنت القرعة، فمن جعل الاختلاف عند إمكان جميع الجهات راجعاً إلى الأَوْلى، تمسك بالقرعة، وإن كان لا يراها عند إمكان غيرها، ولم يحكم بالتهاتر. ومن قدر الاختلاف على الوجه الآخر، فالقرعة عنده فاسدة، وإن لم يَبق غيرها.
12243- ومما يجب التنبه له أن المتعاقدين إذا اختلفا وتحالفا، فلم يصر أحد من الأصحاب إلى إجراء القرعة بينهما. وهذا يُبطل قولَ القرعة، ويستأصله من أصله؛ فإنَّ تعارض اليمينين كتعارض البينتين، ولا ينقدح فرق بينهما به مبالاة. وبالجملة ما تثبت القرعة إلا في أصلين:
أحدهما: في التعيين مع الاستواء في الأغراض المقصودة، وفرض التنافس في الأعيان؛ إذ لا سبيل غيرها أو التحكم، وهذا كالإقراع في تعيين الحصص بعد تميزها على الاعتدال؛ فإن أصحاب الحصص إذا تنافسوا في الأعيان لم ينقدح في تنافسهم إلا تحكم السلطان، أو القرعة، والتحكم يوغر الصدور، ثم صدَرُه عما يقع للسلطان وفاقاً، وهو في معنى القرعة، فكانت القرعة أقطع للشغب، وأحسم لغائلة التحكم؛ وقد تأكدت القرعة في هذا المقام بالأخبار المستفيضة في قَسْم الغنائم.
والتحق بهذا استباق الخصوم، وطلبة العلوم، وتقديم البعض على البعض.
هذا أحد المقامين.
والثاني: القرعة في العتق، وهو غير مستدرك بطريق النظر، ولا معتمد فيه إلا الخبر، ثم استدّ الشرع على إبطال القرعة في أصولٍ عظيمة، يتحقق الإشكال فيها، وتمس الحاجة إلى التمييز، كالطلاق وغيره، فاضطررنا إلى الاقتصار على مورد الخبر.
فأما إجراء القرعة في حرمان مدّعٍ وتثبيت الحق بكليته للآخر من غير تثبت، فأمر عظيم، سيّما وقد لاح على القرب بطلانه في التحالف، فالوجه إذاً في مسألتنا وفي كل مسألة إبطال قول القرعة، حتى إذا لم يبق غيره، تعين الرجوع إلى التهاتر.
ومن أصحابنا من قال في المسألة التي نحن فيها بيّنة المكتري أولى؛ لأنها تشهد بالزيادة. وهذا كلام سخيف، وأول ما يلزم عليه أن يقال: إذا لم تكن بينة، وتحالفا، يقع القضاء لمن يدّعي الزيادة، ثم البينة إنما ترجح بالزيادة، إذا كانت الزيادة في ظهور الصدق، لا في المشهود به.
12244- ثم ذكر ابن سريج صورة أخرى في التنازع في الكراء. فقال: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت جملة الدار بعشرة، فإن قلنا بالتهاتر، لم يخف التفريع، ورجعا إلى الاختلاف في مقدار المعقود عليه. وإن قلنا بالاستعمال، فقول القرعة على ضعفه جارٍ.
قال ابن سريج: أجرى بعض الأصحاب قولاً آخر في الاستعمال يضاهي القسمة، وليس بقسمة، فقال: لو ادعى المكري زيادة في الأجرة، ونقصاناً في المستأجَر، وادعى المكتري زيادة في المستأجَر ونقصاناً في الأجرة، فنجمع بين القولين ونثبت الإجارة في الدار أخذاً بقول المكتري، ونلزمه عشرين درهماً أخذاً بقول المكري، ونقول: الدار بعشرين. قال ابن سريج: هذا ليس بشيء؛ فإنه خروج عن مقتضى البينتين جميعاً. والأمر على ما قال. وعزُّ الفقه وشرفُه في الاقتصار على مسالكه مع التزام الجواب عن كل واقعة، فإذا فتح الإنسان أبواب الوساوس، تباعدت مذاهبه تباعداً يضله عن سواء الطريق، فحق مثل هذا ألا يتمارَى في بطلانه.
فصل:
قال: "ولو ادعى داراً في يدي رجل، فقال له: ليست بملكٍ لي، وهي لفلان... إلى آخره".
12245- هذا الفصل غمرة الكتاب، وكم فيه للفقهاء من اضطراب، وجيئةٍ وذهاب، وسبب ذلك أنه أصلٌ بنفسه، يجب أن يصرف إليه الاهتمام على الوجه الذي يصرف إلى الأصول.
فإذا ادعى رجل داراً في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار لي؛ فأول ما يجب ربط الدَّرَكِ به استدراكُ مقصود الفصل، فنقول: مقصود صاحب اليد بنفي الاستحقاق عن نفسه أن يصرف الخصومة عن نفسه؛ حتى لا يُحلَّف، هذا هو الغرض، ولم يجر لهذا ذكر، فكان أصلاً مستأنفاً.
ونحن نقول: لا يخلو المدعى عليه إما أن يقر بالدار لمعيّن متميز، وإما أن لا يعترف بها لمعيّن. ثم القول في القسم الثاني ينقسم، فقد ينفي عن نفسه ولا يثبت أحداً وقد يذكر مجهولاً.
فليقع البداية بما إذا أقر لمعين، وهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يقر لحاضر يمكن مراجعته.
والثاني: أن يقر لغائب. فإن أقر لحاضر، وقال: هذه الدار لفلان، فهذا إقرار صدر من ذي يد، وحكمه القبول في ظاهر الأمر. فأول ما يبتديه القاضي أن يحضر المقر له ويراجعه، فإن حضر وصدّق المُقِر، فقد استقر الإقرار، وانصرفت الخصومة من الأول إلى هذا المقَرّ له؛ فإنّ الأول ليس يدعي لنفسه حقاً، والخصومة إنما تدور بين متنازعين، فقد خرج الأول عن الخصام في عين الدار.
فلو قال المدعي: حلّفوه لي حتى إن نكل عن اليمين، حلفتُ، وألزمته قيمة الدار، ونزّلته منزلة ما لو أقر لي بعد الإقرار للأول، ولو فعل ذلك، لالتزم القيمة بانتسابه إلى إيقاع الحيلولة بيني وبين حقي بإقراره الأول.
فنقول: هذا يبنى على القولين فيمن قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، وسلمنا الدار إلى زيد لتقدم الإقرار له، فهل يُغرَّم المقِر للثاني قيمةَ الدار؟ فعلى قولين مشهورين: فإن قلنا: لا يغرم للثاني شيئاً، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن العين فاتت، والقيمةُ لا مطمع فيها، والمقصود لا يعدوهما.
وإن قلنا: لو أقر للثاني بعد الأول، لغُرّم القيمة، فنحلّفه رجاء أن يقر، وإن نكل، فيمين الرجل تُثبت ما يثبته الإقرار. فإذا رأينا تحليفه، فإن حلف تخلّص؛ وإن نكل وحلف المدعي غرّمه القيمة.
قال قائلون من أصحابنا: هذا يخرج على أن يمين الرد تنزل منزلة الإقرار أو منزلة البينة: فإن نزلناها منزلة الإقرار، ففائدتها التزام المدعى عليه القيمة.
وإن قلنا: يمين الرد كالبيّنة، فمن الأصحاب من رأى استرداد الدار من المقرّ له الأول، كما لو أقام المدعى البينة، وهذا يقع في المنزلة الثانية من المنازل التي ذكرناها في يمين الرد، فإنا حكمنا بها على ثالث.
ومن أصحابنا من قال: لا نزيل يد المقر له الأول، ولكن نقتصر على إلزام المدعى عليه القيمة؛ فإن العين فائتة، فالرجوع إلى قيمتها.
ثم فرّع بعض المتكلفين على الوجه الضعيف شيئاً نوضح بطلانه؛ وقال: إذا استرددنا الدار من الأول، فهل يغرم المدعى عليه للأول قيمة الدار، فإنه يقول له: لو حلفتَ يميناً صادقة، لما استُردّت الدار من يدي، فقد صار نكولك سبباً في إزالة يدي، فعلى وجهين:
أحدهما: أنه لا يغرِّمه شيئاً، وهو الأصح؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلى أن لا أقر لغيرك إذا رأيتُك مستحِقاً.
والثاني: يلزمه أن يغرم له القيمة؛ فإن الدار انتزعت من يده بسببه؛ والسبب يوجب الضمان كمباشرة الإتلاف. هذا كله إذا أحضرنا المُقَر له فصدق المقر.
12246- فأما إذا أحضرناه، فكذب المقِر؛ فقد ذكر الأصحاب أوجهاً: أضعفها- أن الدار تسلم إلى المدعي؛ فإن صاحب اليد ليس يدعيها لنفسه، وكذلك المقر له، فيجب تسليمها إلى من يدعيها لنفسه، وهذا باطل، فإن تسليم الدار إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد- محالٌ.
والوجه الثاني- أن الإمام يحفظ الدار إلى أن يتبتن أمرُها، ويزيلُ يدَ المقِر عنها، فإن كان للمدعي بينة، أقامها، واستحق الدار، وإن لم تكن له بينة، حفظها إلى أن يتبين أمرَها.
ولو أراد المدعي تحليفَ المقر ليغرمه القيمةَ، لو نكل، وحلف هو، ففيه الخلاف المقدم.
ومن أصحابنا من قال: ترد الدار إلى المقِر؛ فإنه أقر لمن عيّنه. فرد المقَرّ له إقراره فارتد المُقَرّ به إليه.
فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلِّفه، فكيف السبيل، وما الوجه؟ هذا لا يتبين إلا بإيضاح أصلٍ، وهو أن المُقِرّ لو أراد الرجوع عن إقراره والمقَر له مصدق، لم يجد إلى ذلك سبيلاً. ولو كذّب المقَر له المقِر، ثم بدا له، فصدقه، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: لا يُقبل ذلك، حتى يجدد المقِر إقراراً آخر، وهو الذي ذكره القاضي؛ فإن الإقرار الأول ارتد، وبطل بالتكذيب، فلابد من إقرار جديد. والوجه الثاني- أنه مهما صدّقه، زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار.
وهذا ينشأ من أصلٍ، وهو أن التوكيل بالتصرف إن لم يشترط فيه القبول، فيشترط عدم الرد، فلو رد، بطل، ولابد من توكيلٍ جديد إن أراد أن يتصرف، وسبب ذلك أن التوكيل عقد يتطرق إليه الفسخ والاستمرار، والإقرار من وجهٍ يشبه الوكالة، ولا يشبهه من وجه؛ لأنه ليس عقداً، وإنما هو إخبار، ويجوز فرض التصديق فيه بعد التكذيب.
وحاصل القول أن من أقر لغيره، وصح الإقرار، لم يملك الرجوع؛ لأنه برجوعه يُبطل حق غيره، وإذا قال قولاً يتضمن انتفاء ملكه، ثم رجع وقوله الأول لم يُثبت لغيره حقاً، ففي رجوعه عنه التردُّدُ الذي ذكرناه.
ومما نذكره الآن أنا إن أزلنا يد المقر، فقد قطعنا سلطانه بالكلية، حتى لو أراد الرجوع عن إقراره، لم يجد إليه سبيلاً، وإن بقّينا الدار تحت يده، فأراد الرجوع عن إقراره، هل يقبل رجوعه والمقر له مكذّب؛ إن قلنا: لو عاد المقر له إلى التصديق، لم يقبل ذلك منه، فلو كذب هذا المقِر نفسَه، لم يقبل منه؛ فإنه نفى الملك عن نفسه، فلا يقبل منه نقيضُ ذلك كالمقر له وإن قلنا: المقَر له لو صدّق المُقِرَّ بعد التكذيب، قُبل منه، فالمقِر لو كذَّب نفسه-والمقر له مصرّ على التكذيب، أو مات عليه، وأيس من تصديقه- ففي رجوع المقِر الترددُ الذي ذكرناه. وإن قبلنا رجوع المقِر، فرجع، فقال المُقَر له: صدقت في إقرارك الأول، وكذبت في رجوعك، فهذا فيه تردد، وظاهر قول القاضي أنه لا مبالاة بقول المقر له.
فإذا تبين ما ذكرناه، بنينا عليه الغرض قائلين: إن حكمنا بقبول رجوع المقر، فلا شك أنا نقبل منه الإقرار للمدعي إذا كُذِّب في الإقرار الأول، فعلى هذا يحلّفه المدعي رجاء أن ينكُل، فيحلفَ المدعي ويستحق الدار. فإن يمين الرد كبيّنة أو كإقرار.
وإن قلنا: لا يقبل رجوعه عن الإقرار، فالدار ليست بحكمه، وهي بمثابة ما لو انتزعها القاضي من يده. هذا كله فيه إذا أقر لحاضر.
12247- فإذا أقر لغائب؛ فتعسر مراجعته، ويتعذر وقفُ الخصومة، فلا يخلو المقر إما أن يقيم بينةً أن الدار التي في يدي لفلان-على ما سنوضح وجه إقامتها- أو لا يقيم بيّنة.
فإن لم يُقم على ذلك بينة، ولكنه أقر بها لغائب، فلا يخلو المدعي إما أن يكون معه بينة، على إثبات الملك لنفسه، أو لا يكون معه بيّنة.
فإن لم يكن معه بينة، فالذي قطع به العراقيون أن الخصومة في رقبة الدار موقوفة إلى أن يحضر الغائب. ولو قال المدعي: أحلّف المدعى عليه الذي هو صاحب اليد لا يلزمه تسليمُ الدار إليّ، فإن نكل، حلفت، وأخذت الدار، قال العراقيون: ليس له ذلك ألبتة؛ فإنه أقر للغائب، وإقراره مقبولٌ لظاهر يده، فلا يصير نكوله بعد ذلك مع رد اليمين سبباً في تسليم الدار إلى المدعي، غيرَ أنه لو أراد تحليفه، حتى إذا نكل وحلف المدعي عند نكوله، غرّمه القيمة، فهل يكون له ذلك؟ فيه الخلاف المقدم.
وقال شيخي أبو محمد وبعضُ المصنفين: إذا لم يُقم المدعى عليه بينة أن الدار للغائب، ولم يكن للمدعي بينة، فقال المدعي: حلّفوه؛ فإنا نحلّفه: "بالله لا يلزمه تسليمُ الدار إليه"، فإن نكل، رددنا اليمين على المدعي، فإذا حلف، سلمنا الدارَ إليه، فإنا لو لم نقل هذا، لدفع كل من ادُّعي عليه شيء الخصومةَ عن نفسه بأن يقر لغائب لا يرجى وصولُه وإيابُه.
ثم قال هؤلاء: لو رجع الغائب، فهو على حجته. فإن صدّق المقِرَّ، فالدار مردودة إليه، ثم يستفتح الخصومة بين المدعي وبينه.
وهذا تباينٌ ظاهر في الطرق. والقياس الذي لا يجوز غيره ما ذكره العراقيون.
هذا كله إذا لم يُقم المدعى عليه بينة، ولم يكن للمدعي بينة.
12248- فأما إذا أقام المدعي بينة، ولم يكن للمدعى عليه بينة أن الملك للغائب، فلا شك أنا نقضي بموجب البينة للمدّعي، وقطع شيخي ومن وافقه بأن هذا قضاء على الحاضر، وهو صاحب اليد، وهذا مستقيم على طريقهم.
وذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أن ذلك قضاء على الغائب.
والثاني: أنه قضاء على الحاضر، وفائدة قولنا أنه قضاء على الغائب أن القضاء لا يتم بالبيّنة، حتى يحلف مُقيمُ البينة، على ما ذكرنا تفصيلَ ذلك في القضاء على الغائب.
وهذا الوجه الأخير هو الذي يوافق مذهبَ العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر وجه.
وما من فريق إلا ولهم خرجات عن القياس في أطراف هذه المسألة، ونحن ننبّه على ما ينقاس، وعلى ما يخرج عن القياس، وكل ما ذكرناه فيه إذا لم يُقم المقِر بينةً على أن ما في يده لفلان الغائب.
12249- فأما إذا أقر للغائب، كما صورنا، وأقام بينةً على أن ما في يده للمقَرّ له الغائب، فكيف السبيل؟
الوجه أن نفرض الكلام فيه إذا لم يكن للمدعي بينة، ثم نذكر ما إذا كانت له بينة.
فأما إذا لم تكن بينة، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن بينته لا تسمع إذا لم يُثْبت وكالة نفسه عن ذلك الغائب؛ فإن إقامته البينة لملك غيره من غير استنابة وتوكيل خصومة عنه، والخصومة عنه من غير توكيل كالتصرف في أمواله من غير توكيله، فإن أثبث وكالة عنه، فسنذكر ذلك على أثر هذا، إن شاء الله. فبيّنته إذاً مردودة عند هؤلاء. ويعود التفريع إلى ما قدّمناه، وهو إذا لم تكن بينةٌ أصلاً، وهذا اختيار شيخي.
والوجه الثاني-وهو مختار المحققين، المحيطين بسرّ هذا الفصل وخاصيته- أن البينة مسموعةٌ، وليس المراد بسماعها أنه يقع بها القضاء للغائب، ولكن لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى أن يصرف الخصومة عن نفسه إلا هذا، وليس من الممكن أن يقيم بينة على أن الدار ليست له، وإذا أضافت البينةُ الملكَ إلى الغائب، حصل بذلك غرضُ صاحب اليد، وانصرفت الخصومة عنه، فالطريق في دفع الحلف هذا.
ثم سنوضح أن تلك البينة لا تُثبت ملك الغائب على التحقيق، فعلى هذا لو أراد المدعي أن يحلّف صاحب اليد؛ طامعاً في أن ينكُل، ويحلف هو يمينَ الرد، ويستردَّ الدارَ، لم يمكنه. وتمام هذا الفصل موقوف على نجازه.
والوجه الثالث: أنه إن أقام البينة على أن الدار لفلان الغائب، وهي في يده وديعة أو عارية، فالبينة تُسمع، والخصومة تنصرف عنه في رقبة الدار، فأما إذا لم يذكر لنفسه متعلقاً من إيداع أو إعارة، فلا تُسمع البينة. وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السرّ المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، ولكن لا وصول إليه إلا ببينة تثبت الملك، والمقصودُ من إثبات الملك للغائب النفي وقطع العلائق.
والوديعة لا تُثبت للمودعَ حقَّ المخاصمة، فلا معنى لاشتراط ادعائها، فإن كانت المسألة على ما وصفناها وسمعنا البينة، فهذه بينة تُسمع، وإن لم تكن للمدعي بينة، وبهذا يتضح أنها ليست ببينة، وإنما الغرض صرف الخصومة إلى الغائب. وكل ما ذكرناه فيه إذا لم تكن للمدعي بينة.
12250- فأما إذا كان للمدعي بينة فأقامها، فبيّنته مقدمة، ويقع القضاء بها، ولكن القضاء على حاضر أم على غائب؟ قال العراقيون: القضاء على الغائب، إذا أقام صاحبُ اليد بينة على أن الملك للغائب، وفائدته تحليف المدعي مع بينته.
ثم لا تعارِضُ بينةُ صاحبُ اليد بينةَ المدعي؛ لأنها ليست بينة على الحقيقة، وإذا قضينا للمدعي، وكتبنا له السجل، أثبتنا في السجل مجرى الحال، وقلنا فيه: إذا رجع الغائب، فهو على حجته، وهو صاحب اليد، فمهما رجع، رددنا الدار إلى يده، وسمعنا بينته، ثم هو في حضوره يعيد البينة إمّا تيك أو أخرى، ولا يقع الاكتفاء بإقامة صاحب اليد؛ فإنه ما أقامها له وعنه، وإنما أقامها ليصرف الخصومة عن نفسه.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن من ادعى داراً في يد رجل، وأقام بينة، وقضي له بالبينة، وأزيلت يد المدعى عليه، ثم وجد المدعى عليه بينة، فهل ترد الدار إلى يده، ونقدره صاحب اليد، على ما تفصّل في تأسيس الكتاب. وهاهنا إذا حضر الغائب، وأعاد البينة، فلا خلاف أنه صاحب اليد، وبينته مقدمة؛ فإنه كان معذوراً بغيبته، إذ جرى القضاء عليه، وحصل بإقامة صاحب اليد الشهودَ عُلقةٌ على حال، وتنبيهٌ على ارتقاب عوده. فخرج من مجموعه ما ذكرناه.
ولو لم يُقم المدعى عليه بينة على أن الملك للغائب، وأقام المدعي بينة، وحلف معها، ووقع القضاء له، فإذا رجع الغائب وأراد إقامةَ البينة، فهو صاحب اليد، كما ذكرناه، لإقرار المدعى عليه له في ابتداء الخصومة، ولكون الغيبة عذراً له.
12251- ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المدعى عليه لو أقام بينة على أن ما في يده لفلان الغائب، وقلنا: البينة مسموعة لصرف الخصومة، فلو لم تكن للمدعي بينة، فقال أحلّف صاحب اليد لينكُل، فأحلف، فأغرمه القيمة، لم يكن له ذلك، مذهبا واحداً؛ لأن الخصومة قد انصرفت عنه بسبب إقامة البينة.
ولو لم يُقم بينة على أن ما في يده لفلان، فأراد أن يحلفه، فقد سبق الكلام فيه، وهو موضع اختلاف العراقيين وغيرهم، وذلك الاختلاف في رقبة الدار: ففي الأصحاب من قال: يستفيد المدعي بيمين الرد الدارَ. ومن أبى ذلك من العراقيين ذكروا خلافاً في أنه هل يحلّفه لينكل؛ فيحلف، فيغرِّمه القيمةَ؟ فعلى الخلاف المقدم المذكور فيه إذا أقر لحاضر وصدقه ذلك الحاضر. نعم، لو عاد ذلك الغائب، وأقام البينة على ملك نفسه، أو وقع الإقرار لحاضر، ثم لما دارت الخصومة بين المدعي والمقر له، أقام المقر له بينة على ملكه، فلا يملك المدعي تحليفَ المقِر ليغرِّمه؛ فإن الملك استقل للمقر له بالبينة، فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة، ولا مبالاة باقتضاء إقراره له ما يرجح بينته، إذا كانت الإحالة على البينة.
ومن تمام الكلام في ذلك أن المدعى عليه لو أقر للغائب، وأثبت وكالة عنه، ثم أقام البينة بأن الملك للغائب، وهو موكلي، قدّمنا هذه البينة، ونُطنا بها القضاء؛ فإنها بينة مقامة في حقها، مقدَّمةٌ على بيّنة المدعي الخارج. وقد انتهى كُثْر المقصود من ذلك. وبقي الكلام في طرفٍ هو التتمة.
فلو قال المدعى عليه: الدار لفلان الغائب، وهي رهن في يدعب، أو مستأجرة، فقد ادعى لنفسه حقاً، لو ثبت، لاستحق به مدافعةَ المدعي ومنْعَه، فمن لا يسمع البينة فيما تقدم من غير وكالة، ففي سماع البينة في هذه الصورة وجهان.
والعراقيون سمعوا البينة من غير وكالة، ولا ادعاءِ حقٍّ، ولكنهم قالوا: لا محالة، بينة المدعي مقدمة، فلما فرضوا دعوى الرهن والإجارة، وبَنَوْا عليه تصوير إقامة البينة على أن الدار لفلان، وقد أجّرها من صاحب اليد أو رهنها، فإذا أقام بينةً كذلك، وأقام المدعي بينة، ذكروا وجهين:
أحدهما: تُقدم بينة صاحب اليد؛ فإن لها تعلقاً بحقه، ويثبت الملك للغائب، لتعلق الملك بحق الحاضر، حتي لا يحتاجَ إلى إعادة البينة إذا حضر. حكى العراقيون هذا الوجه عن أبي إسحاق وضعّفوه.
والوجه الثاني- أنه لا يثبت ملكُ الغائب، ويثبت ملك المدعي، ولا يثبت الرهن والإجارة؛ فإنهما يتبعان ثبوتَ الملك للغائب، وثبوتَ الملك له يتبع إذنَه وتوكيله.
وقد انتجز الكلام في الطرف الأعظم. وهو إذا أقر صاحب اليد لمعين، حاضراً كان أو غائباً.
12252- فأما إذا نفى الملكَ عن نفسه ولم يُضِفْه إلى معروف معين، فهذا يتصَوَّرُ على وجوه:
أحدها: أن يقول: "ليس هذا بملكٍ لي"، فلا تنصرف الخصومة عنه بهذا، ولا تندفع عنه اليمين، فإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على الحاضر، وإن لم تجر بينة، فله أن يحلّف صاحب اليد، فإن حلف تخلص، وإن نكل حلف المدعي واستحق دعواه. هذا هو المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال: "ليس هذا لي" ينزع القاضي العينَ من يده، ويقول للمدعي: هذا مال ضائع، فإن كانت لك بينة، فأقمها.
والصحيح أن القاضي لا ينتزع من يده إذا لم يضف الملك إلى مُقَرّ له، ولا تنصرف الخصومة عنه. ثم من قال: للقاضي أن ينزع ملكَ العين من يده، يجوّز للمدعي أن يحلّف المدعى عليه ليغرمه القيمة على أحد القولين.
فإن قال المدعى عليه: هذه الدار لرجل، ولا أسميه، فالحكم فيه كما إذا قال: ليس لي، واقتصر عليه.
وإن قال: الدار لرجل لا أعرفه، وقد أُنسيتُ اسمَه وعينَه، فالاختلاف جارٍ في هذه الصورة، غير أن انتزاع القاضي العين من يده على الحكم الذي ذكرناه أَوْجَه في هذه الصورة منه في الصورتين المتقدمتين.
12253- ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو أقر لمجهول، أو قال: ليس لي، ثم قال: كذبت فيما قلتُ، والملك لي، فهل يقبل قوله الثاني؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وهو بعينه الخلاف الذي قدمناه فيه إذا أقر لحاضر، وكذّبه المُقَرّ له، ورجع المقِر عن إقراره، وقد قدمنا ذلك مفصلاً.
12254- ومما يتصل بهذه الجملة أن المدعى عليه لو أقر لصبي أو مجنون، فإقراره مقبول، والخصومة في رقبة الدار تنصرف عن المدعى عليه، ثم يخاصم المدعي قيم الطفل، وإذا آل الأمر إلى اليمين، وقفت الخصومة إلى بلوغ الطفل، وهل يحلّف صاحب اليد ليغرّمه؟ فيه الخلاف المقدم.
وإن قال المدعى عليه: هذه الدار وقفٌ على ولدي، أو على الفقراء، أجري الحكم بالوقف لإقراره، وفي تحليفه لتغريمه القيمةَ الخلافُ المقدم، وإن أقام المدعي بينة، قُضي له بها على التفصيل الماضي.
وإنما يجري الخلاف في التحليف والتغريم إذا أقر بالوقف على ولده؛ فإن التدارك ممكن، وإن أقر بالوقف على المساكين، فالتدارك فيه ممكن أيضاً بقيام البينة، فكيف فرض الأمر فالخلاف جارٍ.
وقد نجز الفصل على أبلغ وجه في البيان. والله المستعان.
فصل:
ذكر الشافعي فصلاً يتعلق بالتواريخ في الدعاوي المتعلقة بالأملاك أو بالأيدي، فرأيت تأخيره إلى باب معقود في هذا المقصود.
ثم قال: "ولو أقام بينة أنه غصبه إياها... إلى آخره".
12255- إذا ادعى رجلان عيناً في يد إنسان، فأقام أحدهما بينة على أنه غصبها منه، وأقام الآخر بينة على أنه أقر بها له، فبينة الغصب مقدمة؛ فإن الغصب إذا ثبت، بطل الإقرار. وهذا بيّن.
ثم إذا رددنا الدار إلى مدعي الغصب، فليس لمدعي الإقرار أن يغرمه شيئاً، فإنه يقول: انتُزِعَت الدارُ من يدي قهراً، وإنما يخرج القولان في الغرم إذا كانت الحيلولة محالة على إقرار سابق، ثم يُفرض بعده إقرارٌ لاحق.
ثم ذكر بعد ذلك فصلاً في تقاسيم الأيمان، وأنها متى تكون على البتّ، ومتى تكون على نفي العلم، وقد ذكرنا هذا فيما سبق، وغالب ظني أنه يعود إن شاء الله في بقية مسائل الكتاب، والحاجة ماسة إليه. والله أعلم.